الأربعاء، 21 أكتوبر 2020

الصورة الرقمية في معناها الحديث وتقنيات تناولها ـ رانية القلسي عبيد

رانية القلسي عبيد : باحثة تشكليّة

يُعنى هذا البحث بالصورة كمفهوم تشكيلي معاصر، وبالصورة الرقمية الفوتوغرافية تحديدا بالتوازي مع ممارسات الرسم الفائق الواقعية. يتألف الباب الأول من مشكلة البحث التي تم طرحها بتساؤلات حول مدى تأثر الصورة الفنية بالمجال الرقمي ودرجة ظهور ذلك في الممارسات الفنية عموما وفي التصوير الفوتوغرافي مقارنة بفن الرسم تحديدا،  وكيف تمكنت الصورة الرقمية من تغيير المفاهيم الاستيطيقية الجمالية. وتأتي أهمية هذا البحث من خلال حداثة الطرح الذي يُعرف الآن بآخر التوجهات الفنية للممارسة التشكيلية، والطريقة الأكثر معاصرة لنقل الواقع ومساءلته.  أما الهدف الاستيتيقي من البحث فهو الكشف عن هوية الصورة الرقية وموضعتها مقارنة بالصورة الفائقة الواقعية.

أما الباب الثاني فقسم إلى محورين، يتمثل الأول في مدخل تاريخي يؤسس للمساءلة حيث أن الإنسان منذ الأزل يحاول ومن خلال ابسط الطرق أن يٌرسخ واقعه وينقل ما يعيشه عبر الرسوم على جدران الكهوف وغيرها، وصولا إلى الصورة الرقمية والفوتورقمية التي تمكننا اليوم من مشاهدة الصورة بواقعية مطلقة وحتى نقلها بالفرشاة على الخلفية المختارة عبر تقنيات وآليات عديدة منها آلة الآرتوكراف.

ويتطلب البحث بالضرورة الوقوف على مفهوم الصورة الرقمية وتعريف بالواقعية المطلقة ضمن الباب الثاني، فما هي ابرز خصائصهما وما هي أوجه التشابه بينها؟ أما الباب الثالث والأخير فيضم أغلب الاستنتاجات التي توصلنا إليها. 

الباب الاول: الصورة في قراءات حديثة:

غدت التطورات المتسارعة في جلّ المجالات الحياتية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، السمة الأبرز لعصرنا الراهن، هذا المعاصر الذي تم فيه تكريس نظام عالمي جديد متخفي وراء مظهر خادع يحيل إلى عولمة الثـّقافات وتلاحمها، وهو في خلفية الأمر سعي  للسّيطرة وطمس اختلاف الهوية عبر الهيمنة البصرية،  لـيصبح العالم قرية موحدة ذات توجه ثقافي واحد حيث يقول محمد عابد الجابري: «أنّ العولمة عملية أيديولوجية تعكس إرادة الهيمنة على العالم وأمركته، لأنـّها تعمل على تعميم نمط حضاري يخصّ بلدا بعينه وهو الولايات المتـّحدة الأمريكية بالذات على بلدان العالم أجمع»[1].

على هذا النـّحو يسيطر المـُروّج الأساسي "للعولمة" على سائر الثـّقافات، فأحدث تدخله تغيـّرات نوعية في جلّ المجتمعات وتوجهت نحو نموذج ثقافي موحـّد، نتج عنه نموذج فنـّي وتـشكيلي ذو منحى يقطع مع الخصوصية الثـّقافية لكل بيئة ومجتمع بل تتجاوز ذلك لتصل إلى ما بعد الصورة.

تمتلك الصورة مقوّمات التـّأثير الفعـّال على المُستقبل والسـّيطرة على إدراكه بطمس العقل. وللصورة لغة متعددة الدلالة، تخاطب جل الحواس في الجسد، حيث تمارس الفعل وتحث على رد الفعل من خلال البصر والبصيرة، الذي يؤمنان التواصل بين الرائي والمرئي، فتُنتج بهالتها استقطابا كان الفوتوغرافي أو المخرج هو المشكل لتموقع عناصر الخطاب وتناسق الأجزاء فيها، بعلاقات متبادلة بين الأشكال والألوان، والضوء والحركة فيسقط المتلقي أمام بلاغة الصورة وصدقها ورمزيتها وقوة متخيلها، فإذا كان الإنسان في زمن العولمة يشعر بعزلة من جراء تطور عالمه تكنولوجيا، فان صور المعاصرة عمقت من عزلته ومن عزلة الفنان المعاصر الذي أصبح يعاني من اغتراب مضاعف للفن، حتم عليه إعادة قراءة واقع الميديا وصورها ، والبحث عن ما وراء العولمة تشكيليا.

وطالما يريد الفنان التشكيلي أن يكون مُختَرَقا لا مُخترِقا، لذلك حاول بعض الفنانين المعاصرين ـ إزاء هذا الغموض لمآل الفنّ ولدور الصورة التضليلي- مسائلة الصورة وتجلياتها من خلال ممارسات تشكيلية، وحتى التنافس على نقل الصورة الأكثر واقعية بأساليب مختلفة حتى أن بعض ممارسي الفن التشكيلي وصول والى مرحلة من الحيرة بين البحث عن جمالية الصورة وأبعادها أو نقل الواقعية الأصدق. وجاءت هذه الممارسات كردة فعل على الدور الذي أصبحت تتقمصه كل من الفوتوغرافيا والفيديوغرافيا في الترويج لثقافة الهيمنة، بانحرافها عن مسؤوليتها الجمالية والتواصلية نحو ايهامات بصرية تشكل تضليلا معرفيا للمتلقي.

تولدت على ضوء ما سبق رغبة البحث في خبايا الصورة الفوتوغرافية الواقعية والصورة الشديدة الواقعية وأدواتها في علاقتهما بالمتلقي، وما خفي وراءهما من نوايا وغايات أساسها الاختراق بـِالرّؤى والتـّصورات الفكريـّة والثـّقافية. فهل أبرز هذا الفكر المعاصر حقا بعدا استيتيقيا جديدا ومغايرا لما سبق في الفن التشكيلي أم هو استمرار له؟ وهل تعتبر الصورة الفوتوغرافية الرقمية والرسوم الفائقة الواقعية موضوعا لم يتم طرحه بعد؟

الباب الثاني: لمحة تاريخية:

يمكن  أن نتبع التطور المفاهيمي للصورة وفق المراحل الكبرى التي ميزت تطورها الميديولوجي حسب تصنيف ريجيس دوبراي في كتابه "حياة الصورة وموتها"[2]، بعيدا عن تمفصلات تاريخية متعارف عليها (ما قبل التاريخ – القرون الوسطى – الأزمنة الحديثة) أو الاقتصار على اعتماد زمن الفن منه ما قبل التاريخ وصولا إلى المعاصرة. فالصورة تملك الحق في زمنية خاصة بها أكثر جذرية، إذ لكل عصر لغته وصورته، ولكل وظيفة معينة تسمية معينة لها، لذا فالصورة المشكلة التي لا تحمل الممارسة نفسها لا يَجدر بها أن تحمل الاسم نفسه.

وتهتم الميديولوجيا بدراسة الوسائط حاملة الرّسائل والأفكار وهو مصطلح جديد استعمله ريجيس دوبريه Régis DEBRAY[3] في كتابه "علم الإعلام العام"[4]، أي علم دراسة الوسائط المادية التي يتجسد عبرها الكلام. ينقسم هذا المصطلح إلي لفظين "الوسيط" و"العلم"، وهو توجه فكري أمكن تعريفه بــ"علم الوسائط"، لذا أمكن القول أن الميديولوجيا تهتم بالأساليب المادية والأدوات التقنية التي بفعلها ينفُذُ المحتوى، فلا وجود لفكرة -تاريخيا- دون وسيط مادّيّ يكون الأداة الّتي يجري بها نقلها عبر الزّمان والمكان، ليحتلّ الوسيط بذلك مكانة أهم من مضمونه، الشيء الذي يعبر عنه ماك لوان  Mc LUHAN بقوله أن "الوسيط هو الرسالة"[5] بحد ذاتها.

تعتبر الصورة الحيز الأهم في الميديولوجيا، كونها وسيط للترميز وحامل مادي للآثار التي يتركها الإنسان يوميا هنا أو هناك، فتعد ذاك الشيء المشكل الذي ينقل معلومات بقديمها وجديدها، فهي "امتداد بجذورها إلى الكلمة اليونانية القديمة أيقونة Icône)) والتي تشير إلى التشابه والمحاكاة والتي ترجمت إلى Imago)) في اللاتينية و(Image) في الفرنسية والانجليزية"[6]، فيفسر مصطلح الصورة لغة ًبأنها "الشكل، والجمع صور، فقد صوره فتصور، وتصورت الشيء، توهمت صورته، فتصوّر لي، والتصاوير التماثيل"[7]، أي الشبح (Fantôme). وهو ما يطلق قديما على الصنم والتماثيل، كما عرفها ابن الأثير بأن "الصورة ترد في لسان العرب لغتهم على ظاهرها، وعلى معنى حقيقة الشيء وهيئته، وعلى معنى صفته، يقال صورة الفعل كذا وكذا أي هيئته، وصورة كذا و كذا أي صفته"[8]، فتتحدد الصّورة لغة على تلازم ربط هذا المصطلح بكلّ غرض حقيقي وعلى الهيئة الخاصّة بالشيء المصوّر.

أما الإغريق فقد اعتبرو الصورة هي النظرة، فانعدام النظر بالنسبة إليهم هو تقلص للصورة ليرتبط تشكلها عندهم بالحياة والموت "فأن تحيا بالنسبة للإغريق ليس كما هو الشأن عندنا، أن تستنشق الهواء، بل أن ترى، وأن تموت يعني أن تفقد النظر"[9]، أي أن تفقد القدرة على إدراك الأشياء عبر صورها لتتولد الصورة الذهنية أو السيمولاكر.

إذا للصورة القدرة على خلق العوالم سواء كانت لا مادية أو بالشكل الأيقوني الذي اعتمدته العقيدة الأورتودوكسية لإحياء ذاكرة قديسيها، فالأيقونات حسب بورس هي "تلك العلامات التي تستطيع تمثيل موضوعها بواسطة شبهها به"[10] لتحاول بالنسخ إعادة إنتاج شكل العلاقات الواقعية المطلقة وخصائصها، بل بعض تمثلاتها بعلامة تتشابه مع ما تحيل إليه وتدل عليه الصورة الأصل.

وفي الفنون التّشكيلية فتُعدُّ الصورة غرضا بصريا مهما لاستيعاب العالم المرئي فهي بجميع تشكلاتها مصطلح يرتبط  بالإعادة التّمثل وبالتّمثيل البصري، وقد اختلفت تعريفاتها ومرادفاتها كما اختلف دورُها الوسائطي حسب السياق والعصر ليختصرها صلاح فضل في أنّها: "علامة دالة تعتمد على منظومة ثلاثية من العلاقات بين الأطراف التالية، مادة التعبير وهي الألوان والمسافات وأشكال التعبير وهي التكوينات التصويرية للأشياء والأشخاص، ومضمون التعبير وهو يشمل المحتوى الثقافي للصورة من ناحية وأبنيتها الدلالية المشكلة لهذا المضمون من ناحية أخرى"[11] .

يبدأ الإدراك الحسـّي للصورة من العامة بلعبة الرؤية كما يسميها موريس مارلوبنتي، إذ أنها نتاج لتبادل الأدوار بين رؤية الإنسان والمرئي ذاته:" فبينه و بين المرئي تنقلب الأدوار بشكل لا مفرّ منه"[12]، فالرؤية تُفهم ضمن دائرة التلاحم والتداخل بين الذات وحاسة البصر، فتتـّجه أوّل الأمر إلى سطح الصورة لكنـّها لا تلبث أن تتوغل داخل الجسد فيدرك خفاياها دون أن يتخلى عنها (الرؤية).

 وبالنتيجة يمكن القول أن الرؤية من مكونات الجسد متّحدة به تماما كاللمس والإحساس، يشكل الوجود مجال ترحالها، ترى فيه ويُرى بها، وهي خالقة الصور على حدّ تعبير جورج ديدي هيبرمان في كتابه "الذي ننظر إليه والذي ينظر إلينا"[13] والذي يؤكّد فيه: "أنّ ما ننظر إليه ليست له قيمة ولا يعيش إلاّ من خلال ما ينظر إلينا"[14]،وتطور هذا المعنى مع تطور الصورة الفوتوغرافية واكتشاف أساليب جديدة للتبادلها ومعالجتها، مثل اكتشاف ورق التصوير من قبل جوزيف نايسفور، وأصبح بالإمكان الحصول على صورة فوتغرافية مطبوعة على سطح حساس للضوء لأول مرة في 1820م، وبذلك أنتقل الرسام إلى الصورة المطبوعة التي ساعدت بدورها العديد من الفنانين في تنفيذ أعمالهم ومشاريعهم الفنية، كما ساعد تطور الكاميرا الفوتغرافية على ظهور اتجاهات واقعية جديدة في فن الرسم، كالواقعية المفرطة والرسم بأدق التفاصيل، إذ تم استخدام وسائل مختلفة لنقل الصورة بدقة كاستخدام أجهزة عرض الصور الشفافة، وأجهزة عرض الشرائح[15] ليدخل الفنان التشكيلي في سباق بين الصورة الفوتوغرافية والصورة المنقولة عنها عبر الرسم فمن الأكثر واقعية ومن الأقرب للمتلقي من الناحية الحسية والايديولوجية.

ويعتبر جهاز الآرتوكراف - LED300-Artograph المعاصر من الادوات التي ساعدت الفنان كثيرا للوصول للواقعية المطلقة ويحتوى على مجموعة من الخصائص التي تساعد على كشف ونقل أدق تفاصيل الصورة، ولعل اغلب مميزاته المتطورة غيرت وأثرت بشكل واضح على المشهد التشكيلي، وساعدت على ظهور اتجاهات فنية جديدة في الفن التشكيلي بشكل عام والرسم بشكل خاص، ولعل أهمها ما يعرف بالهايبريالزم أو الواقعية الفائقة في الفن، وهذا الاتجاه الفني الجديد أرتبط بشكل وثيق مع الصورة والصورة الفوتورقمية، ويمكننا القول بأنه لم يكن ممكناً الوصول إلى الواقعية الفائقة بدون التقنية الرقمية. ومن هنا أصبحنا أمام علاقة تماهي وتواصل بين الفنان المصور والفنان الناقل، بل لعله سباق فني بين الممارسة الفنية عبر الآلة الفوغرافية وعبر يد الفنان.

الصورة الفوتوغراغية والواقعية الفائقة:

الواقعية الفائقة هي فكر غني جديد انتشر في الولايات المتحدة الامريكية والاوروبا في بداية الألفية الثالثة وفي أيامنا هذه تعتبر الحركة الأكثر تداولا وممارسة، وقد تعددت تسمياتها من الواقعية السحرية إلى الرسم التفصيلي... حيث يتم رسم محتوى الصورة بمستوى من التفاصيل يذكرنا بالصورة الفوتوغرافية. في حين أن الواقعية المصورة تريد أن تكون جميلة قبل كل شيء من خلال التمثيل اللامع والواقعي، فإن الواقعية المفرطة في التمثيل البارد والدنيء “المقلق بشكل مبالغ فيه” تطرح مسألة طبيعة الأشياء في سياق وجودي يكاد يكون ساخرًا. على سبيل المثال ، تعمل لوحات المناظر الطبيعية التي رسمها غوتفريد هيلنوي في الواقع على الواقعية في الصور، لأنها في المقام الأول مدقنة ولكن ليس لها الطابع المقلق لصورته. ومع ذلك ، نظرًا للندبات والجروح التي أوضحها الفنان، فمن المرجح أن يتم تعيينها إلى الواقعية المفرطة؛ الحدود سائلة، ولا يهم إذا تم تصوير هذه الصور أو رسمها. ويرجح بعض نقاد الفن أن هذه الحركة الفنية هي إجابة على فن التجريدي وفن الاختزال، بينما يجزم البعض أنها نسخ للصورة الفوتورقمية.

فرواد الواقعية المفرطة تتناقض مع النهج الحرفي الموجود في اللوحات الواقعية الواقعية في أواخر القرن العشرين. يستخدم الرسامون والنحاتون الهائلون القائمة على الصور الفوتوغرافية كمصدر مرجعي لإنشاء عرض أكثر دقة وتفصيلاً ، وهو غالباً ما يكون ، على عكس الصورة الواقعية ، سردًا وعاطفيًا في صوره. يميل الرسامين الواقعيون الصارمون إلى تقليد الصور الفوتوغرافية ، أو حذف أو تلخيص بعض التفاصيل المحدودة للحفاظ على تصميم مصور متناسق شامل. غالبًا ما أغفلوا المشاعر الإنسانية والقيمة السياسية والعناصر السردية. منذ أن تطورت من فن البوب، كان الأسلوب الواقعي للرسم محكمًا ودقيقًا وميكانيكيًا بشكل فريد مع التركيز على الصور اليومية الدنيوية.

وحسب رأي المنظرين الجماليين، فأن الهايبريالزم تتجذر في فلسفة جان بورديار والقانون الذي وضعه والذي يفيد بمحاكاة الأمر الذي لم يكن موجوداً فعلاً، وهو يتوافق ويستخدم في السيميائية وفلسفة ما بعد الحداثة لوصف عدم قدرة الوعي على التمييز ما بين الواقع ومحاكاته، وعليه فالهايبريالزم تحاكي  واقع زائف[16]، فاللوحات والمنحوتات هي ثمرة الصور الفائقة الدقة التي تنتجها الكاميرات الرقمية والتي يتم معالجتها ضمن برمجيات خاصة بالتصوير، تلتقط ما لا يمكن للعين البشرية أن تراه لخلق شعور جديد بكل المحيط من أحجام وأشكال وأشياء وأجساد.

بيدرو كامبوس-الشاطئ الرملي-2013 

ولعل هذه الخصائص التشكيلية تبرز من خلال الحجم الكبير للأعمال، والتركيز على نقل أدق التفاصيل في المثيلات التصويرية[17] في محاولة للتفوق على الواقع، إضافة إلى تميز الأعمال بالاتجاه نحو المشهد الغير مألوف.

أنتج هذا الاتجاه  تعبيرات حديثة سيطرت على الطاقة الفكرية والبصرية للمتلقي، فاعتقلت عقله ومخيلته بتفاعل لا مرئي مع وعيه، حيث يقول ماك لوهان Mc LUHAM هكذا أفضت دمقرطة الصورة اليوم إلى ما سمي بالأمس عند الفرنسيين بحرب الأعصاب والحرب الباردة كمفهوم عالمي"[18]، ليعبر الفنان عن هويته الثقافية والاجتماعية والسياسية عاكسا واقع المجتمع بصورة استفزازية.

مباحث الممارسة بين الفوتوغرافيا والواقعية الفائقة:

مكنت الأدوات الصناعية المتطورة فن الفوتوغرافيا التشكيلي من مرونة أكثر في التعبير، فجاءت صوره لا كاستحضار لواقع معين بل كتشكيل لفضاء مادي بطريقة مختلفة ومتخيلة. وجاءت عديد الأعمال في عمق استيتيقي ظاهر للابتعاد على نقل صورة السائد،  مناقشة بذلك عصر الفنان وهويته برؤية جديدة. وفي هذا النطاق يمكن أن نتطرق إلى تجربة الفنانة الإيرانية "شيرين نشأت"[19] المعبرة عن واقع المرأة وقضية القمع التي تواجهها وسعيها إلى الحرية في مجتمعها من قيود السلطة الدينية هناك من خلال تناول خاص لمبحث البوتريه.

فمثلا عمل بعنوان "الصمت المتمرد"، جسدت الفنانة فيه وجها بالأبيض والأسود لمحجبة كُتبت على بشرة وجهها حروف فارسية  تحمل السلاح. توزعت الكتابة بشكل منظم على الربع الأعلى والربعين الأسفلين من الوجه بذلك تكون الحروفية قد احتلت منطقة الجبين والفم دون التعرض لمنطقة الأنف، أرادت من ذلك الفنانة أن تشير إلى الحجب الذي يصيب العينين والفم بفعل الكتابات إضافة للأذنين بفعل الحجاب، وكأننا بها تقول أن لا حرية للمرأة إلا في التنفس في إشارة للسلطة الدينية التي تطمس الهوية الفكرية والاجتماعية وحتى الجسدية للأنثى. كما بانت المرأة في العمل بنظرات ثاقبة تحمل سلاحا قسم الصّورة إلى نصفين متساويين احتلّ المستوى الأول من التركيبة، إذ جاء محجوبا بين طيات اللباس الطائفي ليجسد بذلك شرخا وانفصاما تعانيه المرأة الإيرانية وكذلك إصرارها على مقاومة هذه الممارسات والذي ما نلاحظه من نظراتها الثاقبة.



 33,2*49,6 شيرين نشأت ، الصّمت المتمرّد
[20]

كل هذه العناصر المكونة للصورة الفوتوغرافية كشفت به الفنانة عن ثنائية القمع والمقاومة في واقع المرأة المظلم في العالم وفي إيران خاصة، حيث تقول: "على الرغم من اختلاف الثقافات، فإنه يوجد الكثير المشترك بين كوريا وإيران على ما أعتقد، وأظن أن أعمالي الفنية تحتضن القضايا السياسية والنسائية، وأتصور أيضا أنها تثير التعاطف من الجمهور الكوري أيضا"[21] استطاعت الفنانة  اكتساب أسلوب خاص من خلال اعتمادها  ثنائيات تشكيلية مراوحة بين كل من الإظهار والإخفاء، الوجه واللاوجه، الحياة والموت، الأفقي والعمودي، الهوية والعدم، عمقتها "شيرين نشأت" بمؤثرات بصرية.

إن تصوير بورتريه باعتماد على اسلوب حداثي، هو رسالة بصرية تزخر الرموز بمدلول موجّه للمشاهد عبر لغة تشكيلية تتفاعل فيها الكتابات مع القماش يجسدان بها ثنائية "المعنى واللامعنى"، فالقيم الضوئية أضفت معنى الحزن على الصّورة و"اللامعنى" لهوية بشرية تتعرض للقمع من مجتمعها الديني. يمكن للمعنى أن يكون مرئيا أو لا مرئيا في طيات العناصر المشكلة للصورة التي تكبر أهميتها بالمعنى الذي تختزله في طياتها. فطبيعة المعنى قادرة على التغير عبر طرق تقديمها للمتلقي وطريقة عرضها، فتمارس سلطتها على جسد المتلقي وتدخله في جدلية الدال والمدلول. هذا الذي أكده "جون بافنيو" الذي بحث في الصورة معتبرا أنها أداة اتصال تقيم العلاقة بين الباث والمتلقي حيث لا تخاطب حاسة البصر لديه فقط بل تتعداه لتصل إلى حواسه وأحاسيسه وموروثه العاطفي والاجتماعي لتشكل هويته الفكرية.

ولعل هذا المثال يتوازي مع تجربة الفنانة الأمريكية أليسا مونك[22] التي اختارت أن تضع الاوتوبرتريه وراء واجهة بلورية مع تأثيرات المياه والبخار لتظهر كمية الضوء والتعبير الموجودة في الملامح. والمثال المقدم هنا يظهر درجة التغبير الذي يتحمله الوجه حتى أننا في مرحلة أولى نعتقد انه صورة فوتوغرافية لا رسم بيد فنان على قماش.

 

شكل (2) الصرخة -2010م 72×48سم زيت على قماش الكتان.


 


شكل (1) الإبتسامة المتكلفة  2009م.64×48سم، زيت على قماش الكتان.

رغم استخدام الزيت على قماش الكتان والرسم بالفرشاة، وبضربات واضحة عند التدقيق في وجوه أليسا مونك، إلا أن ما ساعدها على تنفيذ مثل هذه الرسوم هو الصورة الرقمية التي مكنتها من رؤية تفاصيل اللون والضوء والظل في قطرات الماء، أو تكثف البخار فوق السطح الزجاجي، وهي تفاصيل لا يمكن رؤيتها عادة بالعين البشرية أو من خلال الصورة الفوتغرافية مهما جرى تكبيرها، لكونها تفقد خاصية الوضوح والحدة التي توفرها الصورة الرقمية وجهاز العرض الآرتوكراف، والذي يُمكن من نقل هذه التفاصيل المجهرية إلى السطح البصري، وتكبير الصورة الرقمية بدون أي خسارة في وضوح التفاصيل.

 اندرج عمل الفنانتين ضمن الفنون البصرية المعاصرة التي أصابت مفهوم التمثل والمحاكاة لتعتمد رؤى تشكيلية جديدة وصلت بالصورة حد التسلط خاصة مع بلوغ العولمة، فأصبحت الصورة تمارس استبدادا على عين المتلقي بمختلف أطيافه، لتتحوّل إلى نِتاجٍ نخبوي، لا تنزل عن سقف معرفي محدد قد لا يرتقي إليها المتلقي فلا يحسن تأويلها ويكون أداة طيعة لمعانيها.

ويمكن التأكيد على التكامل على كل من تقنيات الصورة الرقمية والواقعية عبر مثال الطبيعة الجامدة أيضا حيث تم استعادته بطرق مختلفة تتجاوز صدق الصورة أحيانا إذ تصل إلى إظهار ما لا يري بعن العدسة العادية بل لا يمكن التدقيق فيه إلا عبر التكبير الشديد للصورة. إضافة إلى أن الفنان الواقعي عبر وساطة الأدوات الرقمية استطاع اكتشاف عالم من التأثيرات لم تكن ممكنة ونجح في تمثيلها.

 

طبيعة صامتة 2012م 150-200 زيت على الكانفاس

لم تتقاطع الصورة هنا بنقل التفاصيل الدقيقة للوجه والطبيعة الصامتة فحسب، بل وبمعالجة مباحث كلاسيكية أيضا فالصورة تحافظ على دلالتها وقوامها ولا تختلف غير التقنية ومبحث الممارسة. إن الصورة الفوتوغرافية لم تكتف بان تكون منافسا بل أصبحت محفزا ووسيلة ثم أداة لمساعدة الفنان للوصول إلى أهدافه التشكيلية.

الباب الثالث:

كشف البحث في مرحلة أولى على الطريقة التي يتمكن بها فنانو الواقعية الفائقة من اتمام منجزاتهم الفنية ونقل الواقع بكل مصداقية وبادق التفاصيل عبر عكس الصورة القوتوغرافية بجهاز العرض الأرتوكراف.

أما في ما يخص كشف العلاقة بين الصورة والصورة الفوتوغرافية والصورة الواقية فقد استخلصنا العلاقة التلازمية بينهم من حيث مباحث الممارسة وقدمنا أمثلة لإثبات ذلك الصورة الشخصية أي البورتربه والطبيعة الصامتة، إلا أن هذه الممارسات تقدمت برؤيا جديدة مبرزة إمكانيات للفنان لم يتم ملامستها من قبل.

الخاتمة:

استوجبت المعالجة التشكيلية المعاصرة من الفنان ضرورة البحث عن أساليب ووسائط مستحدثة لا تقطع مع القديم كمبحث، وتؤسس لممارسات جديدة ومغامرة تنفتح على الكلاسيكي ولكن عبر السبل التكنولوجية المتطورة. فجاءت قواعد الممارسة التشكيلية الحداثية التي وضعت المفهوم الصورة من جديد موضع تساؤل حتى أضحت هذه الأخيرة مفهوما لا يمكن الجزم بمعناه بصفة نهائية.

وبفضل هذا الفكر ولدت الواقعية المفرطة، وتأسست على المبادئ الجمالية الواقعية المستوحاة من واقعية الصورة الرقمية ونجاحها في الولوج إلى المجال التشكيلي بامتياز في أواخر الستينات وبداية السبعينات. وبدأت الأعمال الفنية تثير دهشة المتلقي وتستفز الفنان لمعالجة الواقع المعاش وملامسة المحيط والأشخاص بعين مجهرية لا يمكن تأثيث فضاءها إلا من خلال علاقة التماهي والتكامل بين الصورة والصورة الفوتورقمية والصورة المفرطة في الواقعية. 

الهوامش

[1] الجابري، محمد عابد، " العولمة والهوية الثقافية عشر أطروحا ت" في: العولمة وأزمة الليبرالية الجدي د، محمد عابد

. الجابري وآخرون، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر،. 2009.
[2]  عصر اللغوسفير (Logosphère) وعصر الغرافوسفير (Graphosphère) وعصر الفيديوسفير (Vidéosphère) أسست هاته العصور حسب "دوبري" لعلم كامل اهتم بالدور الوسائطي احتلت الصورة فيه دورا هاما .
[3] Régis Debray (né le 2 septembre 1940 à Paris) est un écrivainphilosophe et haut fonctionnaire  français. Engagé aux côtés de Che Guevara dans les années 1960, il est emprisonné et torturé à plusieurs reprises en Amérique du Sud. Il devient par la suite un écrivain prolifique. Dans le domaine des sciences de l'information, il crée et développe le domaine de la médiologie et fonde la revue Médium. Il a été membre de l'académie Goncourt entre 2011 et 2015.
 [4] Debray, Regis, Cours de médiologie générale, Editions Gallimard, paris.1991.

[5] “Le message, c'est le médium”. Comprendre les médias, publiés en 1964.

http://citations.webescence.com/citations/Marshall-McLuhan

[6] Groupe (u) traité du signe visuel, Pour une rhétorique de l'image, Seuil, Paris, 1992, pp 113- 114.

[7]  ابن منظور، لسان العرب، دار الفكر، بيروت، 2008، المجلد الثاني، ص 729. المادة صور

[8]  نفس المصدر السابق.

[9]  سعاد عالمي، مفهوم الصّورة عند ريجيس دوبري، أفريقيا الشرق، بيروت لبنان،سنة 2004، ص 30.

 [10] أمبرطو إيكو، سيميائيات الأنساق البصرية، ترجمة: محمد التهامي العماري، محمد أودادا، دار الحوار، اللاذقية- سورية، ط1، 2008،ص 29.

[11]   صلاح فضل، قراءة الصورة و صور القراءة، دار الشروق، القاهرة، مصر، ط1، 1997،  ص 6- 7.

  [12] موريس مرلوبنتي، العين و الروح، تقديم و ترجمة الدكتور الحبيب الشاروني، نشر منشأة المعارف بالإسكندرية،  ص 31.

[13] Ce que nous voyons, ce que nous regarde.

[14] Georges DIDI-HEBERMAN, Ce que nous voyons, Ce qui nous regarde, les Editions de minuits, Paris 2014, p.9.

[15]. Joseph Michetti. Photorealism: you can do it, published by: Author House, USA, 2011, p27

[16]. Jean Baudrillard. Simulacra and Simulation: The Precession of Simulacra, Translated by: Sheila Faria Glaser, University of Michigan Press, USA, 1994, p.1.

. Michael English. The Anatomy of Illusion: Painter's Guide to Hyperrealist Technique, Paper Tiger, 1989, p.76.[17]

[18] Mc Luham, Pour comprendre les médias, P.370.مفهوم الصورة عند روجيس دوبري، ص 15

[19]  شيرين نشأت  فنانة معاصرة ايرانية ولدت في عام 1957 في إيران ، وانتقلت إلى الولايات المتحدة عام 1974 لتدرس الرسم ونظريات الفنون في جامعة كاليفورنيا في بيركلي.

[20]  سوهن جي آي، كوريا.نت الثقافية،2014.http://arabic.korea.net/NewsFocus/Culture/view?articleId=1186 10

[21]  نفس المصدر السابق

[22].  http://alyssamonks.com/index.asp

قائمة المصادر:

مراجع من الانترنات: 

http://arabic.korea.net/NewsFocus/Culture/view?articleId=1186

http://alyssamonks.com/index.asp

http://citations.webescence.com/citations/Marshall-McLuhan

 

المراجع العربية

 - ابن منظور، لسان العرب، دار الفكر، بيروت، 2008، المجلد الثاني.

-  الجابري، محمد عابد، " العولمة والهوية الثقافية عشر أطروحا ت" في: العولمة وأزمة الليبرالية الجدي د، محمد عابد الجابري وآخرون، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر،. 2009.

-سعاد عالمي، مفهوم الصّورة عند ريجيس دوبري، أفريقيا الشرق، بيروت لبنان،سنة 2004.

-أمبرطو إيكو، سيميائيات الأنساق البصرية، ترجمة: محمد التهامي العماري، محمد أودادا، دار الحوار، اللاذقية- سورية، ط1، 2008.

-صلاح فضل، قراءة الصورة و صور القراءة، دار الشروق، القاهرة، مصر، ط1، 1997.

-موريس مرلوبنتي، العين و الروح، تقديم و ترجمة الدكتور الحبيب الشاروني، نشر منشأة المعارف بالإسكندرية.

 المراجع الفرنسية:

 -Debray, , Cours de médiologie générale, Regis Editions Gallimard,. paris.1991

-“Le message, c'est le médium”. Comprendre les médias, publiés en 1964.

-Groupe (u) traité du signe visuel, Pour une rhétorique de l'image, Seuil, Paris, 1992.

Ce que nous voyons, ce que nous regarde.

-Georges DIDI-HEBERMAN, Ce que nous voyons, Ce qui nous regarde, les Editions de minuits, Paris 2014 .

-Joseph Michetti. Photorealism: you can do it, published by: Author House, USA, 2011,..

- Jean Baudrillard. Simulacra and Simulation: The Precession of Simulacra, Translated by: Sheila Faria Glaser, University of Michigan Press, USA, 1994.

- Michael English. The Anatomy of Illusion: Painter's Guide to Hyperrealist Technique, Paper Tiger, 1989

-Mc Luham, Pour comprendre les médias..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المركّب الثّقافي محمّد الجمّوسي بصفاقس : أمسية شعريّة عربيّة افتراضيّة

  في إطار المقهى الأدبي عبد الرّزّاق نزار ينظّم المركّب الثّقافي محمّد الجمّوسي بصفاقس أمسية شعريّة عربية افتراضيّة عبر تقنية التّواصل عن بع...