الجمعة، 18 سبتمبر 2020

مبدعون : الكاتب و الفنّان التّشكيلي محمّد بن جماعة


" مبدعون " هو ركن جديد نحتفي فيه بأهل الفنّ و الفكر عرفانا باسهاماتهم و نضالاتهم الثّقافيّة و تثمينا لدورهم المحوري في رقيّ مجتمعاتهم  . ضيفنا الأوّل هو مبدع متعدّد المواهب و ذو مسيرة زاخرة تمتدّ منذ الثّمانينات من القرن الماضي . هو الشّاعر و القّاصّ و الفنّان التّشكيلي و الإعلامي و الفاعل الثّقافي . نتحدّث عن المبدع محمّد بن جماعة الّذي يحبّ الحياة والحرية كما يحبّها لغيره من الناس و يعشق الفن والموسيقى الراقية و يطالع بشكل يومي آخر ما يصله عبر منصات إلكترونية عربية وعالمية تهتم بالكتب الفكرية والأدبية وسائر الفنون.. وفي آخر كل يوم يمارس رياضة المشي لعلها خير أنيس .. يحرص على استغلال كافة حواسه لينعم بالجمال المحيط رغم القبح المنتشر... هذا عن الإنسان فيه ، أمّا عن محمد بن جماعة الشّاعر فقد كانت الظروف مواتية في طفولته ليهتم بالشعر . حيث وجد في بيت جده لأمه كتبا مختلفة كان ينهل منها خاله الذي درس بمعهد ترشيح المعلمين . فكان يقلب الصفحات من ديوان المتنبي و روايات جرجي زيدان و عبرات و نظرات مصطفى لطفي المنفلوطي.. و نسخة رصاصية من  رواية الزير سالم.. كل هذه الكتب و غيرها أنسته فقدان والده المبكر الذي توفي عن عمر 39 سنة.. كانت طفولته تبحث عن مجال يحقق دفء الأب الغائب إلى جانب حنان الأم الذي لم ينقطع حتى بعد رحيلها .. كان يقرأ أي شيء من أي شيء.. حتى إن لم يجد فتراه يردد بعض الكلمات الجديدة التي يحفظها من لغته الأم العربية العظيمة التي آوته حقا.. كتب أول قصيد و عمره 12 سنة و صحح له مطلعها مدرس اللغة العربية .. و حين انتقل إلى المرحلة الثانوية  تعرف على البحور الخليلية فكان يكثر من النظم على الأوزان كاملها و خببها و رملها و متقاربها و رجزها..لم تخل جلساته بين أقرانه من قول بعض الشعر المتأثر بشعر الغزل العربي قديمه وحديثه خاصة ثم أنّه عايش أوج انتشار أعمال الشاعر العربي الكبير نزار قباني..ثم ازدادت التجربة تبلورا بدار المعلمين العليا بسوسة أين درس اللغة والحضارة العربية لمدة سنتين (1982- 1984).. وبعد فترة طويلة من المشاركات الميدانية في دور الثقافة والشباب داخل مدينة صفاقس وخارجها وأهمها مشاركاته المتكررة بدار الشباب و الثقافة قليبية في دورات كان يديرها باقتدار أ. محمود قفصية و يشرف عليها أدبيا آل صمّود ، كان ذلك أواخر الثمانينات من القرن الماضي.. تحصل خلالها على شهادات شكر وتشجيع صحبة مجموعة لا بأس بها من الأدباء الشباب يحتل البعض منهم اليوم المراتب الأولى وطنيا و عربيا على غرار صديقه  الأديب إبراهيم درغوثي.. في الشعر نشر سنة 2005 " قم إليك!.." و " نشوة ثانية" في 2017 ثم " بلوريات" في 2018 . في السّرد صدرت له مجموعة قصصية عنوانها" يوسف و مطر المساء" سنة 2008، من ضمنها قصة متوجة بالجائزة الأولى والميدالية الذهبية في مسابقة مرآة الوسط لأدب الشباب سنة 1997  .. له مخطوطات سردية عديدة وشعرية لم تنشر بعد..
نمرّ إلى جانب آخر من تجربة محمّد بن جماعة  الابداعيّة . فقد أُغرم بالفنّ التّشكيلي منذ طفولته المبكرة حيث كان لا يترك القراطيس على نقاوتها ، فهو دائم التخطيط والخربشة في غياب تام للأقلام والأقلام الجافة.. فلم يستعمل حينها غير أعواد الحصير و"الدواء الأزرق والأحمر" وهما سائلان للمداواة الجلدية يستغلهما حبرا.. كان يستعمل كل ذلك وهو لا يعرف ما يقوم به و لا يعي ، فقط يشاهد حركة عود الحصير على الورق الرمادي الذي يلف فيه التاجر السكر..تطورت موهبته بشكل لافت في فن الرسم حتى أنه كان في حصة اللغة الفرنسية تستدعيه معلمته قبل الوقت بنصف ساعة ليرسم لها على السبورة ما يمكن أن تحتاجه من صور لتسهيل الفهم .. كان ذلك في السنة الثانية ابتدائي وعمره سبع سنوات.. إلى أن كبرت الموهبة وتطورت بين رسم وخط عربي فأثّث  معارض متنوعة أولها من سنة 1987 إلى سنة 1994.. شارك في دورتين في معرض الفنون التشكيلية بصفاقس صحبة أساتذته الذين درسوه الرسم بالمعهد آنذاك، سنة 1987/ 1988.. وفي التسعينات من القرن الماضي ساهم في تخطيط جينيريك عديد الأعمال الدرامية التي كانت تسجل بوحدة الإنتاج التلفزي .. و أبرزها تلك الأعمال التي زينت البرنامج المشهور الذي قدمه كل منأ. عبد المجيد الحاج قاسم و  أ. نجيبة دربال و عنوانه " ميعاد مع الضاد" حيث تفنن في إنجاز لوحات عدة استعملت كفواصل انتقالية لم تخرج عن جمالية الخرف العربي .
نتحدّث الآن عن مسيرة محمّد بن جماعة الإعلامي  .فإلى جانب دوره الإداري و كموثق لفترة بقسم الأخبار لمواد ورقية وأخرى صوتية فقد أنتج  العديد من البرامج الثقافية والحضارية و المسرحيّات  بإذاعتي صفاقس و الشّباب . من البرامج نذكر له : ثقافة بلا حدود ،1988- شوارع المدينة ، 1996-1998- إفريقيا حبيبتي ، 1998- 1999 - مدونات ربيع ، 2011 ـ  بوح الخاطر ، خريف 2010 - واب الفنون ، ربيع 2009 ـ  عناوين مشتركة في الإنتاج مع أ. طيب بودبوس: الذهب الأسود 2004 -  الأنهار الكبرى 1999-الحواضر الكبرى 2000 - بحار 2000 - قمم 2001 - الصحاري الكبرى 2001 - بحر الحضارات 2001 - موكب العصور 2001 - مدائن 2002 .
لا يفوتنا أن نؤكّد على أنّ محمّد بن جماعة هو كذلك فاعل ثقافي بارز  ، كان و لا يزال يتابع بالحضور جل الأنشطة الثقافية المحلية بمدينة صفاقس وضواحيها.. فهو مغرم جدا بالاستماع إلى المداخلات الأدبية و الفكرية و الفنية و الموسيقية إلى جانب المساهمة في تنظيمها . حيث كان عضوا ناشطا  بنادي الشعر والقصة في أواسط ثمانينات القرن الماضي رفقة الشعراء المرحوم محمد البقلوطي و نورالدين بوجلبان و جمال محرز و منير بوشكوة و المرحوم عبد الرزاق نزار و غيرهم.. و في سنة 2016 تولّى الكتابة العامة لفرع اتحاد الكتاب التونسيين بصفاقس فرئاسة للفرع منذ 2019 ، فساهم بجدية في تشريك جل الهياكل  الأدبية والفنية و تكريس عادات الاحتفاء بأصحاب القلم والإبداع الأدبي عموما .يشرف حاليا على الصفحة الإلكترونية التونسية لاتحاد الأدباء الدولي والذي يترأسه أ. اياد البلداوي ويرأس فرع تونس أ. الباحث والناقد ماهر دربال.. وكانت له فرصة المشاركة باحتفالية هذا الاتحاد الثانية بمدينة طنجة المغربية من 5 إلى 9 أفريل 2018. و في أوت 2019 كان له شرف المشاركة بمدينة إسطنبول في نشاط أقامته منظمة أديبات العراق ضمن مهرجانها الدولي الأول  تحت شعار " بالكلمة الحرة نرتقي جميعا ".
من نصوص المبدع محمّد بن جماعة اخترنا لكم هذا القصيد الذي يحمل عنوان " مدينة و إمرأة "

هَذَا طَرِيقٌ آخَرُ..
لَمْ أَعْهَدْ رُبَاهُ..
وَلَمْ تأْلَفْ خُطَايَ أَشْوَاكَهُ..
وَلَمْ أَعْرِفْ بَعْدُ جَنّتَهُ..
لَمْ أَشْرَبْ مَاءَهُ..
وَلَمْ أَذُقْ طَعْمَ خُبْزِهِ..
وَلَمْ أَلْبَسْ رِدَاهْ..
فَقَطْ أَعْلَمُ أَنّ السّيْرَ..
يَقُودُنِي بِحُكْمٍ جِينِيٍّ..
إِلَى مَدِينَةٍ حَالِمةٍ مِثْلِي..
يَسْكُنُهَا ظَبْيٌ يَرْتَعُ مَرِحًا..
المَدِينَةُ لَـهاَ مَلِكٌ اسْمُهُ الْعَادِلُ..
وَشَعْبٌ عَامِلٌ نَمْلِيٌّ، يُقَاوِمُ الْجَفَافَ وَالفَوْضَى..
أَحْجَارُ الْمَدِينَةِ تَتَنَفَّسُ صَلاَبَتُهَا..
تَعْرِفُ أَنَّهاَ فِي حَضْرَةِ السُّورِ..
تَحْمِي وُلاَةَ قَبَائِلِهَا..
فَأَنْحَنِي تَارَةً لِلنُّورِ القَادِمِ مِنْ سَمَائِهَا..
أَقْبِضُ مِنْهُ حِزْمَتيْنِ..
اُخْفِي وَاحِدَةً فِي صَدْرِي..
وَأَضَعُ الأُخْرَى عَلَى رَأْسِي..
لِيَهْتَدِيَ قَرِينِيَ طَائِرُ الشّعْرِ الّذِي غَيَّبَ وِحْدتِي..
أَرْفَعُ كَاهِلِي تَارَةً أُخْرَى..
يُلغَى تَعَبِي بَيْنَ نُوتَاتِ عِطْرِ "مُوزَارْتْ"..
وَنَبْرَاتِ شَوْقِ "بِيتْهُوفِنْ"..
تَمَامًا أَنَا السَّائِرُ اُتَصَفِّحُ وَرَقَ الطّريقِ..
أَتَحَسَّسُ عَبْقَرِيَّةَ الإِيقَاعِ الّتِي تَحْمِلُنِي..
إِلَى امْرَأةٍ أَمْسَكَتْ بِيُمْنَايْ..
وَتُشْهِدُ الشَّجَرَ والزَّهْرَ علَى حُبّنَا الأَكْبَرِ..
وَتَقُولُ لِلشّمْسِ لاَ تَقْتَرِبِي..
فَجَمْرَةُ الْقَلْبِ قَدِ اسْتعَرَتْ..
وَالْمِحْرَارُ الْبِلَّوْريُّ تَشَظَّى..
تَكَسَّرَ فُتَاتُهُ عَلَى الرَّمْلِ..
فَلاَ يُمْكِنُ جَمْعُ زِئْبَقِ الرُّوحِ العَطْشَى
تَنَاثَرَ مِزَقًا بَيْنَ أَصَابِعِ النّسْيَانْ..
الحُلْمُ خَطْوٌ مِنْ زُجَاجٍ..
وَالطَّرِيقُ مِنْ رُخَامٍ..
وَالزَّمَنُ شَفّافٌ فَاضِحٌ أَمرَهُ..
كَالسِّيَاسَةِ فِي بِلاَدِ الشُّعَرَاءْ..

*****

فِي طَرِيقيَ الجَدِيدِ..
أَضْطَرُّ أَنْ أَمْسَحَ جَبِينِيَ مِنْ عَرَقَ الحُلْمِ..
وَأَنْ أَنْضُوَ الَمَاءَ عَنْ لَهْفَتِي الّتِي سَبِقَتْ شَهْقَتِي..
عِنْدَ إكْلِيلِ القُدُومِ..
تَتَكَوَّمُ أَكْياَسُ الْمَحَاصِيلِ جَمِيعُهَا..
القَمْحُ واللّوْزُ والْعِنَبُ المُجَفّفُ..
وَشَرَائِحُ التِّينِ..
جِبَالُ الحُبِّ العاَلِيةُ..
حَمَلْتُهَا عَلَى كّتِفِي فِي حُلْمِ البَارِحَة..
أَوْثقْتُ فِيهِ غُولَ الْخَوْفِ..
وخَلَعْتُ دُرْعَهُ أَنْهَكْتُهُ..
وَرَمَيْتُ الْحِبَالَ إِلَى أَعْلَى سُورِ الْقَصْرِ تَسَلّقْتُهُ..
الْحِبَالُ مَتِينَةٌ جِدًّا نَزَلْتُ بِهَا إلَى البُسْتَانْ..
وَكُنْتُ أَمْشِي فِي غِيَابِ السُّلْطانْ..
يَدَايَ لَمْ تَلْمَسْ ثِمَارَ الْقَصْرِ..
وَجّهْتُهُمَا إِلَى الْبَابِ..
أَنْصَتَ الْبَابُ إِلَى فِكْرَتِي..
ضَحِكَ فِي وَجْهِي مِلْءَ مِصْرَاعَيهِ..
دَخَلْتُ أَبْحثُ عَنْ ضَوْئِي..
لَمْ أَجِدْ غَيرَ تِمْثَالٍ يُسَبِّحُ بِجَمَالِهِ..
تَرَكْتُ يَدَيَّ تَتَحَسَّسُ التِّمْثَالَ رُخَامَهُ الدَّافِئَ..
اِخْتَزَلَ زَمَنَ الْحُلْمِ..
فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ مَرَّةً ثَانيةً..
ذَرَعْتُ الْمَكَانَ بَحْثاً عَنْ مَنْفَذٍ..
السَّتَائِرُ تَتَرَاقَصُ..
وَالثُّرَيّاَتُ تُومِضُ..
وَاللّوْحَاتُ تَرْمُقُ..
وَالْمُوسِيقَى تُعْزَفُ..
وَالدُّفُوفُ تُنْقَرُ..
التِّمْثَالُ خَفَّ حِمْلُهُ..
طَوّقَنِي، طِرْناَ كَطَيْفَيْنِ..
وَاعْتَلَيْنَا فِي السَّمَاءْ..

******

الاِبْتِسَامَةُ لاَ تَحْتَاجُ إِلَى شَفَتَيْنِ..
وَالوَرْدُ يُفْصِحُ بلِاَ خَدَّيْن..
نُفِشَ الرُّخَامُ بِرُخَامِهِ.. دَبَّتْ حَيَاتُهُ فِي يَدَيّْ..
تَمَاسَكَ قـَــدُّهُ..
وَدَنَا نَحْوِي خُطْوَتَيْن..
فَيَا سَمَاءُ تَقَدَّمِي مِنِّي..
وَيَا نَارَ الْحُبِّ، ضُمِّي أُوَارَكِ فِيكِ..
وَاحْضُنِي جَسَدِي، اِرْفَعيني إِلَيْكِ زّمَنًا..
وَلاَ تَحْرِقِينِي أَكْثَرَ..
فَإِنِّي مَيِّتٌ فِي أَعْيُنِهِمْ .. 
حَيٌّ فِي عَيْنيّْ..
وَالْبَحْرُ اِحْتَجَبَتْ زُرْقَتُهُ..
نَشَفَ مَاؤُهُ..
وَالسُّفُنُ رَاسِيَةٌ تَنْتَظِرُ أَوّلَ الجَزْرِ..
وَأَنَا أَبْحَثُ عَنْ مَاءٍ بَارِدٍ..
بَيْنَ أَهْدَابٍ وَمُقَل
..



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المركّب الثّقافي محمّد الجمّوسي بصفاقس : أمسية شعريّة عربيّة افتراضيّة

  في إطار المقهى الأدبي عبد الرّزّاق نزار ينظّم المركّب الثّقافي محمّد الجمّوسي بصفاقس أمسية شعريّة عربية افتراضيّة عبر تقنية التّواصل عن بع...