الجمعة، 11 سبتمبر 2020

حين تطرح الكورونا سؤال العلاقة بين التّربية و الثّقافة ـ بقلم : صابر بن عالية


راجت في الفترة الأخيرة عديد الأقاويل حول إحتمال إلغاء الموادّ الفنّيّة من البرنامج التّربوي ، و ذلك كحلّ للتقليص من الزّمن الدّراسي بما يسمح بتقسيم التّلاميذ إلى أفواج قليلة العدد للتوقّي من فيروس كورونا . و هو ما أدّى إلى مواقف متباينة في خصوص وجاهة هذا التّمشّي ، إن كان ما يروج صحيحا ، من عدمه . و بذلك تكون الكورونا قد طرحت علينا سؤال جوهريّا و حارقا : أيّ دور للثقافة في التّربية ؟ و هو ما  سنتناوله في هذا المقال .  

تساهم الثّقافة فعليّا في رفع التّحدّيات الّتي يواجهها قطاع التّربية . تتعلق هذه التّحدّيات أساسا بتوسع نفاذ الجميع إلى التّعليم ، و لا سيّما الابتدائي ، و بجودة البرامج التّربويّة . تسهّل الثّقافة النّفاذ إلى التّعليم كما تجعل البرامج و المناهج و أساليب التّدريس أقرب إلى الواقع المحلّي .

إنّ إدماج الثّقافة في التّربية يؤدّي إلى نظام تربوي متلائم مع حاجيّات العالم المعاصر و يؤهّل الأفراد للعيش في مجتمع معولم و متعدّد الثقافات . كما أنّ توفّر سياسات و برامج تربويّة و مناهج متلائمة مع الخصوصيّات الثّقافيّة يضطلع بدور رئيسي في مقاومة اختلال المساواة في النّفاذ إلى الدّراسة و ضمان تعليم شامل للجميع .

كذلك فإنّ اعتماد ممارسات تربويّة  مبتكرة ، تكون فيها المجتمعات بمعناها الواسع مشاركة ، يساهم في تنوّع هامّ على مستوى التّربية . من الأمثلة على ذلك تشريك بعض عناصر المجتمع ، كالوالدين و المسنّـين و الحكواتيّين ، في تدريس بعض المحاور المحلّيّة أو تقديم وجهة نظر دينيّة أخرى أو التعريف بالعادات الثّقافيّة .

من ناحية أخرى يتضمّن التّراث الثّقافي اللامادّي أمثلة حيّة لمحتويات و أساليب تربويّة . فقد ابتكرت المجتمعات في كلّ العصور أساليب لتنظيم و نقل معارفها و مهاراتها للأجيال اللاحقة ، لا سيّما فيما يتعلّق بالبيئة الطّبيعيّة و الاجتماعيّة . حتّى في ظلّ توفّر الأنظمة التّربويّة الرّسميّة ، فإنّ الكثير من هذه المعـارف و الأساليب التّقليديّة للتّعليم مازالت ذات أهمّيّة و فائدة . و هي تشمل عديد المجالات كالصّحّة و الزّراعــــة و الاستغلال الدّائم للموارد الطّبيعيّة . تقتضي جودة التّربية أن لا تنفصل الأجيال الجديدة عن هذه الموارد القيّمة للمعرفة المرتبطة بصفة وثيقة بهويّتهم الثّقافيّة .

بالاضافة إلى ذلك تؤدّي مراعاة البعد الثّقافي إلى النّفاذ إلى تعليم متنوّع من خلال تعزيز التّعليم باللغة الأمّ إلى جانب الانفتاح على اللغات الأخرى . فالتّعليم باللغة الأمّ يمثّل السّبيل إلى تربية شاملة للجميع ، و بالتّالي يجب أن يثمّن و يعترف به كشرط أساسي لتوسيع النّفاذ إلى التّربية و فرص التّعلّم . و هو أيضا يساهم في تحسين جودة التّربية و المحافظة على التّراث و العادات و اللغات .

على صعيد آخر فإنّ الثّقافة ، حين تكون في صميم التّربية تعزّز الثّقة و تدعم الحوار من خلال تأهيل النّاشئة على أمثل وجه للعيش في مجتمع متعدّد الثّقافات . لمجابهة تحدّيات العالم المعاصر ينبغي أن تهدف الاستراتيجيّات التّربويّة إلى تنمية الحساسيّة الثّقافيّة و تمكين النّاشئة من الاختصاصات الّتي تتخوّل لهم العيش في مجتمع متعدّد الثقافات اقتصاديّا و اجتماعيّا . و باعتبارها من المكوّنات الرّئيسيّة للحياة المواطنيّة يجب أن تدعم التّربية احترام الاختلافات الثّقافيّة و أن ترسّخ الوعي بضرورة مقاومة الصّور النّمطيّة ، لا سيّما تلك المتداولة في وسائل الإعلام ، و أن تمثّل أداة تسامح و سلام . يجب أن تساهم السّياسة التّربويّة في بناء مجتمعات مسالمة و دائمة . و هو ما يتطلّب مراعاة البيئة الثّقافيّة الّتي ستطبّق فيها . ففي مجتمعات تتّسم بتنوّع ثقافي لابدّ من مقاربات تربويّة متعدّدة الثّقافات .

تضطلع التّعبيرات الثّقافيّة أيضا بدور هام في النّموّ الشّامل للنّاشئة و نجاحهم الدّراسي . النّظام التّربوي الجيّد هو ذلك الّذي يهتمّ بالطّاقات الشاملة للطّفل . مما يستوجب تثمين الدّور الأساسي للثّقافة و الابداع في العمليّة التّربويّة . فالفنون من موسيقى و رقص و مسرح و غيرها هي أنشطة ضروريّة للنّموّ الشّامل للطّـــــــفل . و النّظام التّربوي الّذي يحفّز الابداع و التّعبير الذّاتي هو الأنجع لتكوين و تأهيل النّاشئة لمواجهة الواقع الاقتصادي الصّعب الّذي ينتظرهم .

تساهم التّعبيرات الثّقافيّة أيضا في خلق أطر تدريس أكثر شمولا للجميع . هي صيخ لفتح حوار بين التّلاميذ و عائلاتهم . فالمشاريع الابداعيّة تشجّع مشاركة أفراد العائلة و المجتمع في المشاريع الدّراسيّة . و هو ما يتحقّق بمناسبة الحفلات المدرسيّة أو المعارض مثلا . بالتّالي يوفّر الفنّ و الابداع فرصا عديدة لتعزيز المشاركة الايجابيّة للوالدين في التّربية ،ممّا يسمح لهما باكتشاف مهارات أبنائهما .

تبرز أهمّيّة الثّقافة في التّربية كذلك من خلال الدوّر الحيوي للمؤسّسات الثّقافيّة في التّعليم اللانظامي مدى الحياة . تشمل هذه المؤسّسات المكتبات و دور الأرشيف و المتاحف و المراكز الثّقافيّة و الهياكل المشابهة . فالمكتبات هي فضاء ينبغي أن يكون متاحا لكلّ من يطمحون إلى التّطوّر الذّاتي و إثراء معارفهم . أما المجموعات الأثريّة بالمتاحف فهي توفّر مساهمة قيّمة في كل جوانب البرامج التّربويّة .

بالإضافة إلى ذلك تمكّن دور الأرشيف و المكتبات المربّين و التّلاميذ و الجمهور من النّفاذ إلى المصادر الأوّلية للمعرفة ،ممّا يسهم في تنمية الفكر النّقدي لديهم .فالنّفاذ إلى هذه المصادر يمثّل شرطا رئيسيّا للتّربية . حيث يمكّن التّلاميذ من ربط الصّلة بالماضي و سدّ الفجوة بين الحاضر و حدث تاريخي بعيد . من خلال توظيف وثائق الأرشيف في العمليّة التّربويّة ، يكتسبون القدرة على قراءتها نقديّا . كما يكتشفون الوثيقة التّاريخيّة و يتدرّبون على تأويل الوقائع . المصادر الأوّليّة هي إذا أدوات تساعدهم على بناء رأيهم الذّاتي . و الثّقافة بهذه الصّيغة تسهم في تنمية الحسّ النّقدي لدى النّاشئة و إكسابهم المعارف و المهارات الضّروريّة لتكوين رؤية نسبيّة للتّاريخ . يكتسي هذا الأمر أهمّيّة بالغة في وضعيّات النّزاع و مابعدها حيث تحول الرّوايات التّاريخيّة المتداولة دون السّلام الدّائم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المركّب الثّقافي محمّد الجمّوسي بصفاقس : أمسية شعريّة عربيّة افتراضيّة

  في إطار المقهى الأدبي عبد الرّزّاق نزار ينظّم المركّب الثّقافي محمّد الجمّوسي بصفاقس أمسية شعريّة عربية افتراضيّة عبر تقنية التّواصل عن بع...