راجت في الفترة الأخيرة عديد الأقاويل حول إحتمال إلغاء الموادّ الفنّيّة من البرنامج التّربوي ، و ذلك كحلّ للتقليص من الزّمن الدّراسي بما يسمح بتقسيم التّلاميذ إلى أفواج قليلة العدد للتوقّي من فيروس كورونا . و هو ما أدّى إلى مواقف متباينة في خصوص وجاهة هذا التّمشّي ، إن كان ما يروج صحيحا ، من عدمه . و بذلك تكون الكورونا قد طرحت علينا سؤال جوهريّا و حارقا : أيّ دور للثقافة في التّربية ؟ و هو ما سنتناوله في هذا المقال .
تساهم الثّقافة
فعليّا في رفع التّحدّيات الّتي يواجهها قطاع التّربية . تتعلق هذه التّحدّيات
أساسا بتوسع نفاذ الجميع إلى التّعليم ، و لا سيّما الابتدائي ، و بجودة البرامج
التّربويّة . تسهّل الثّقافة النّفاذ إلى التّعليم كما تجعل البرامج و المناهج و
أساليب التّدريس أقرب إلى الواقع المحلّي .
إنّ إدماج الثّقافة
في التّربية يؤدّي إلى نظام تربوي متلائم مع حاجيّات العالم المعاصر و يؤهّل
الأفراد للعيش في مجتمع معولم و متعدّد الثقافات . كما أنّ توفّر سياسات و برامج
تربويّة و مناهج متلائمة مع الخصوصيّات الثّقافيّة يضطلع بدور رئيسي في مقاومة
اختلال المساواة في النّفاذ إلى الدّراسة و ضمان تعليم شامل للجميع .
كذلك فإنّ اعتماد
ممارسات تربويّة مبتكرة ، تكون فيها
المجتمعات بمعناها الواسع مشاركة ، يساهم في تنوّع هامّ على مستوى التّربية . من
الأمثلة على ذلك تشريك بعض عناصر المجتمع ، كالوالدين و المسنّـين و الحكواتيّين ،
في تدريس بعض المحاور المحلّيّة أو تقديم وجهة نظر دينيّة أخرى أو التعريف
بالعادات الثّقافيّة .
من ناحية أخرى
يتضمّن التّراث الثّقافي اللامادّي أمثلة حيّة لمحتويات و أساليب تربويّة . فقد
ابتكرت المجتمعات في كلّ العصور أساليب لتنظيم و نقل معارفها و مهاراتها للأجيال
اللاحقة ، لا سيّما فيما يتعلّق بالبيئة الطّبيعيّة و الاجتماعيّة . حتّى في ظلّ
توفّر الأنظمة التّربويّة الرّسميّة ، فإنّ الكثير من هذه المعـارف و الأساليب
التّقليديّة للتّعليم مازالت ذات أهمّيّة و فائدة . و هي تشمل عديد المجالات كالصّحّة
و الزّراعــــة و الاستغلال الدّائم للموارد الطّبيعيّة . تقتضي جودة التّربية أن
لا تنفصل الأجيال الجديدة عن هذه الموارد القيّمة للمعرفة المرتبطة بصفة وثيقة
بهويّتهم الثّقافيّة .
بالاضافة إلى ذلك
تؤدّي مراعاة البعد الثّقافي إلى النّفاذ إلى تعليم متنوّع من خلال تعزيز التّعليم
باللغة الأمّ إلى جانب الانفتاح على اللغات الأخرى . فالتّعليم باللغة الأمّ يمثّل
السّبيل إلى تربية شاملة للجميع ، و بالتّالي يجب أن يثمّن و يعترف به كشرط أساسي
لتوسيع النّفاذ إلى التّربية و فرص التّعلّم . و هو أيضا يساهم في تحسين جودة
التّربية و المحافظة على التّراث و العادات و اللغات .
على صعيد آخر فإنّ
الثّقافة ، حين تكون في صميم التّربية تعزّز الثّقة و تدعم الحوار من خلال تأهيل
النّاشئة على أمثل وجه للعيش في مجتمع متعدّد الثّقافات . لمجابهة تحدّيات العالم
المعاصر ينبغي أن تهدف الاستراتيجيّات التّربويّة إلى تنمية الحساسيّة الثّقافيّة
و تمكين النّاشئة من الاختصاصات الّتي تتخوّل لهم العيش في مجتمع متعدّد الثقافات
اقتصاديّا و اجتماعيّا . و باعتبارها من المكوّنات الرّئيسيّة للحياة المواطنيّة
يجب أن تدعم التّربية احترام الاختلافات الثّقافيّة و أن ترسّخ الوعي بضرورة
مقاومة الصّور النّمطيّة ، لا سيّما تلك المتداولة في وسائل الإعلام ، و أن تمثّل
أداة تسامح و سلام . يجب أن تساهم السّياسة التّربويّة في بناء مجتمعات مسالمة و
دائمة . و هو ما يتطلّب مراعاة البيئة الثّقافيّة الّتي ستطبّق فيها . ففي مجتمعات
تتّسم بتنوّع ثقافي لابدّ من مقاربات تربويّة متعدّدة الثّقافات .
تضطلع التّعبيرات
الثّقافيّة أيضا بدور هام في النّموّ الشّامل للنّاشئة و نجاحهم الدّراسي .
النّظام التّربوي الجيّد هو ذلك الّذي يهتمّ بالطّاقات الشاملة للطّفل . مما
يستوجب تثمين الدّور الأساسي للثّقافة و الابداع في العمليّة التّربويّة . فالفنون
من موسيقى و رقص و مسرح و غيرها هي أنشطة ضروريّة للنّموّ الشّامل للطّـــــــفل .
و النّظام التّربوي الّذي يحفّز الابداع و التّعبير الذّاتي هو الأنجع لتكوين و
تأهيل النّاشئة لمواجهة الواقع الاقتصادي الصّعب الّذي ينتظرهم .
تساهم التّعبيرات
الثّقافيّة أيضا في خلق أطر تدريس أكثر شمولا للجميع . هي صيخ لفتح حوار بين
التّلاميذ و عائلاتهم . فالمشاريع الابداعيّة تشجّع مشاركة أفراد العائلة و
المجتمع في المشاريع الدّراسيّة . و هو ما يتحقّق بمناسبة الحفلات المدرسيّة أو
المعارض مثلا . بالتّالي يوفّر الفنّ و الابداع فرصا عديدة لتعزيز المشاركة
الايجابيّة للوالدين في التّربية ،ممّا يسمح لهما باكتشاف مهارات أبنائهما .
تبرز أهمّيّة
الثّقافة في التّربية كذلك من خلال الدوّر الحيوي للمؤسّسات الثّقافيّة في
التّعليم اللانظامي مدى الحياة . تشمل هذه المؤسّسات المكتبات و دور الأرشيف و
المتاحف و المراكز الثّقافيّة و الهياكل المشابهة . فالمكتبات هي فضاء ينبغي أن
يكون متاحا لكلّ من يطمحون إلى التّطوّر الذّاتي و إثراء معارفهم . أما المجموعات
الأثريّة بالمتاحف فهي توفّر مساهمة قيّمة في كل جوانب البرامج التّربويّة .
بالإضافة إلى ذلك
تمكّن دور الأرشيف و المكتبات المربّين و التّلاميذ و الجمهور من النّفاذ إلى
المصادر الأوّلية للمعرفة ،ممّا يسهم في تنمية الفكر النّقدي لديهم .فالنّفاذ إلى
هذه المصادر يمثّل شرطا رئيسيّا للتّربية . حيث يمكّن التّلاميذ من ربط الصّلة
بالماضي و سدّ الفجوة بين الحاضر و حدث تاريخي بعيد . من خلال توظيف وثائق الأرشيف
في العمليّة التّربويّة ، يكتسبون القدرة على قراءتها نقديّا . كما يكتشفون
الوثيقة التّاريخيّة و يتدرّبون على تأويل الوقائع . المصادر الأوّليّة هي إذا
أدوات تساعدهم على بناء رأيهم الذّاتي . و الثّقافة بهذه الصّيغة تسهم في تنمية
الحسّ النّقدي لدى النّاشئة و إكسابهم المعارف و المهارات الضّروريّة لتكوين رؤية
نسبيّة للتّاريخ . يكتسي هذا الأمر أهمّيّة بالغة في وضعيّات النّزاع و مابعدها
حيث تحول الرّوايات التّاريخيّة المتداولة دون السّلام الدّائم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق